عندما يعيش المرء في لحظات بؤس وألم فإنه تراوده أفكار وهواجس توحي إليه أن الزمن قد توقف عند هذه اللحظة المؤلمة، وأن سُحب المعاناة لن تنقشع، ولن يكون هناك انفراج للمآسي التي تمر به؛ ولكن لو تأملنا في لحظة صفاء لوجدنا أن بقاء الحال من المحال، فالتغير سنة ربانية، فلحظة الضيق يعقبها لحظة انفراج فلا يأس ولا انقطاع للأمل، فإذا تسلل اليأس ـــ بغفلة ـــ إلى النفس فلنجعله دافعاً وملهماً لتحقيق الطموحات والآمال.
وعلى مستوى الأمة نرى أننا نعيش حالة تغير، ومع إن الصورة تبدو قاتمة؛ فموقعنا الحضاري لا يمنحنا التفاؤل لدخول المنافسة والولوج في المداولة. ولكن النظر إلى الصورة الآنية دون استعداد لتقديم أفكار إبداعية وأعمال رائعة هو سقوط في شَرَك اليأس. فحقيقة الصورة: أن كل الأمم لا تستثنى من دخول حلبة المنافسة الحضارية؛ إذ الأمر متعلق بسنن ربانية من أخذ بها حقق الفلاح، فالنظر هو مدى قُربنا وبُعدنا من سنن الله تعالى الكونية والشرعية والاجتماعية. فالأمة إذا سارت على الطريق سيراً متواصلاً منضبطاً بالسنن فإنها ستحقق الريادة ولن يخالجها اليأس. ولليأس بعض النقاط الإيجابية لو نظرنا إليه من زاوية مختلفة، سنجد منها:
اليأس يجعلنا نلتجئ إلى الله تعالى، وإن كان اللجوء ليست حاجة آنية تنتهي برحيل اليأس وذهاب الألم؛ بل هو حاجة دائمة ماسة ملحة، فالمرء لا يستطيع أن يدفع اليأس دون اللجوء إلى الله تعالى، فاليائس يهتف بالدعاء ليلا ونهارا، ويتذلل لله تعالى منكسراً قلبه خاضعة جوارحه؛ فالأمل بالناس قد انقطع وليس له ملجأ إلا الله تعالى، فيتوجه إلى الله وهو الركن الشديد ، فالبارئ يجعل الغد مشرقا، ويعيد البسمة والبِشر والسرور على الوجوه الكالحة.
اليأس يمنحنا راحة وطمأنينة ، فقد نرجو من الآخرين شيئاً، وتتعلق النفوس بما لديهم، ونظل نعيش على أمل بأن يمنحنا الآخرين ما نريد ؛ ولكن مع الاستبطاء يضعف الأمل ، فيسطو اليأس على النفس، وعندها يقطع الرجاء بالآخرين وتعيش النفس في راحة من عدم التعلق بالآخرين، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله علمني وأوجز قال إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع اليأس عما في أيدي الناس [1]"
و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " تعلمون أيها الناس أن اليأس هو الغني، وأنه من يئس من شيء استغني عنه".
وأقوال الشعراء في هذا المعنى كثيرة، فمن ذلك قول المحب قديماً:
فلم تبد لي يأساً ففي اليأس راحة **** ولم تبد لي جوداً فينفع جودها
وقال آخر:
ففي اليأس ما يسلي وفي الناس خلةٌ **** وفي الأرض عمن لا يواتيك معزل
وقال صاحب تجربة:
اليأس أسلى وأغنى **** من نيل ما يتمنى
يسلو أخو اليأس حتى **** يهنا ولا يعنى
لليأس برد فمن لم **** يذقه لم يتهنا
ولا نضيق كثيراً من اليأس فهو يمنحنا فرصة إعادة تقييمنا لذواتنا، فهو يجعلنا نسأل أنفسنا: ما الذي جعلنا نعيش هذا الوضع؟ لماذا نحن في هذا المكان؟ ما الذي فعلناه حتى ألمّ بنا اليأس؟ فاليأس يجعلك تقف مع نفسك لتعيد قراءة اللحظة التي تعيشها، لتبحث عن القيم التي فقدتها، لتعيد لحظة التوازن التي ضاعت مع ضياع القيم. فهو منحة وهبة إذا نظرنا إليه من زاوية التعلم والتجربة. وكما قيل:
اليأسُ أدبني ورفَّع همتي ... واليأس خير مؤدب للناس
اليأس هو موقف تحدي مع الذات، فإما إن تتغلب على يأسك وتكون شخصاً ألمعياً أو أن يتغلب عليك اليأس وتكون شخصاً إمعياً، ليس هناك نقطة وسط؛ فاليأس إما أن يدفعك للأمام أو يسحبك للخلف. وحبائل اليأس تجر من استسلم ولم يقاوم ويمانع، وستقوده إلى الضياع والوهن والخمول والهلاك. فلنتحدى اليأس ولنتحرر من خيوطه وأوهامه كي نعيش حياة ملئها التفاؤل بحياة طيبة.
ألقى من اليأس تاراتٍ فتقتلني **** وللرجاء بشاشاتٌ فتحييني
وكما إن لليأس تأثير سلبي على حياة المرء؛ وخصوصاً لمن استسلم وانقاد لليأس، ومن هذه السلبيات اذكر بعض منها:
اليأس يمنع الإنسان من التجربة والمحاولة، فهو يعطل إمكانات الفرد، ويمنعه من رؤية الفرص المتاحة لحل مشكلاته؛ لذلك تجد اليائس يضع أمامه عوائق حتى ولو كانت وهمية لتمنعه من العمل ، وتكثر لديه مبررات العجز لكي لا يحاول؛ فيقول لنفسه: مهما حاولت فالأمر لن يتغير. الوقت لا يكفي. الأمر يتطلب مالاً وجهداً. الأمر لا يصلح في هذا الوقت. وغيرها من المبررات والتي يهدف منها إرضاء الذات لترك المحاولة، فهو قد قرر عدم العمل ولكن يريد إرضاء ذاته ولو توهماً.
اليأس يعزز الفشل، فاعتقاد اليائس أن مشاكله لن تحل وأنه لن ينجح أبداً مهما حاول، هو بهذا التصور يعزز ويمكّن الفشل. ويوهم نفسه أن فرص النجاح ليست الآن وإنما في المستقبل، فهو يعيش حالة انتظار للنجاح الموهوم في ظل الفرص المستقبلية؛ وحتماً لن يكون في المستقبل إلا الإحباط والإخفاق لن المستقبل هو نتيجة اللحظة، ولحظاته ملؤها العجز والكسل.
اليائس لا يقدم حلاً ، وإنما يقدم صوراً قاتمة مظلمة، فهو يقول: الأمة لن تسير؛ وإن سارت فلا يمكن لها أن تحقق شيئاً يذكر! فهو قد سلب قدرة الأمة وجردها من إمكاناتها وقدراتها التي وهبها الله تعالى فقد عطّل سنن الله تعالى؛ لذلك تجده يعيش في حالة كئيبة، دائماً التضجر والتسخط والنقد اللاذع المتواصل، يشتم أكثر مما يثني ويمدح، قادر ببلاغة فائقة على جلد الذات دون مكافئتها، فعيناه لا ترى العمل الجميل، فالصور المثالية الرائعة في الأمة لا يراها، وإن راءها أعرض عنها، فمن طبعه الانسحاب والانعزال عن المشاركة الإيجابية الفاعلة.
اليائس يفكر بطريقة غير منطقية ولا عقلانية ، لأن نظرته للحياة ناقصة، فمفاهيم الحياة لديه تتشكل من مشاعره دون عقله، ومشاعره تتشكل من لحظته الآنية البائسة التي يعيشها. وبالتالي يوصف الأمة بأن تخلفها وتأخرها هو طبيعة فينا هو كائن في ذواتنا وفي تركيبنا الجسماني؛ إذ يخيل إليه أن جينات التخلف هي صفة لازمة لنا نتوارثها جيلا بعد جيل. ويشتد يأسه وقنوطه ويذهب إلى أن الخلل هو في المنهج الرباني ويزعم أنه منهج لا يصلح تطبيقه في الحياة؛ ولذا قد يدعو إلى فصل الدين عن الحياة كي يحقق النجاح الحضاري في زعمه. فمشكلة اليائس هي في وعيه وفهمه، فلو أعاد قراءة الزمن والنظر في غابر الأيام لوجد أن الغرب كان يعيش في حضيض الحضارات وكان أبعد ما يكون عن التمدن والتحضر. فهل كان تخلف الغرب وانحطاطه نتيجة جينات وراثية؟ لماذا لم يستمر تخلفه وانحطاطه؟ على اليائس أن يفهم سنن الله تعالى ويعي مسيرة التاريخ وأن يدرك أن بقاء الحال من المحال وأن سنة الله جرت بقوله تعالى :" وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ "
فاليائس بحاجة أن يعيد صياغة فكره ونظرته للأمور، فالله قد جعل الحياة مداولة بين الناس، فبعد السقوط نهوض، وبعد الغفوة صحوة وحركة وحياة، وتيئيس الأمة وتعجيزها هي محاولة لإبقائها في حالة السقوط والتخلف، فأقل أحوال اليائس أن يَعدلَ في قوله ونظرته وحُكمِهِ، فمن الجور والظلم أن يرى فقط الجزء الفارغ من الكأس، فهناك أجزاء أخرى ممتلئة تستحق الثناء والاعتزاز، فإذا لم يستطع أن يعدل وينصف فليمسك لسانه ويلجم قلمه، ولا يكون معول هدم، فالكلمة اليائسة تفتك النفوس ، وتخدر العقول ، وتثبط الهمم ، وتبطئ المسير.
وحال المؤمن أنه لا ييأس ولا يقنط وإن أصابه الكرب، ولحقه الهم، وضاقت عليه السُبل، فصلته بالله تعالى زرعت في قلبه الثقة والاطمئنان، فهو يعلم أن الأمر بيد الله تعالى فهو مصرف الأمور كلها، وهو الذي يجعل بعد العسر يسرا، وبعد الضيق فرجا، فلم ييأس إبراهيم عليه السلام عندما قذف في النار، ولم ييأس يوسف عليه السلام عندما ألقى في الجب، ولم ييأس يونس عليه السلام عندما ألتقمه الحوت، فكل من آوى إلى الله تعالى ذهب يأسه، وزال همه. ولذلك كان اليأس في جنب الله تعالى كبيرة من الكبائر كما قال الله تعالى" وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ " [يوسف: 87] فروح الله أي رجاءه وأمله من الله، وكون اليأس من روح الله كفر؛ لأن فيه تكذيب القرآن ، فالله يقول " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " وهو يقول " لا يغفر له" فقد حجر واسعا بجهله.
وختاماً، هنا استبان بسيط يظهر مدى درجة اليأس والتفاؤل لديك، وتستطيع ـــ بدرجة ما ــــ أن تقيم ذاتك، وهي تقدم لك إشارة وليست دليلاً قاطعاً، فإذا كانت إجاباتك بنعم، فهذا يدل على أنك إنسان لا تعرف اليأس. وإذا كانت إجابتك لبعض هذه الأسئلة بالنفي، فلا ترجئ الأمر في المعالجة، وتقول سأتغير في المستقبل عندما تتغير الظروف، لنجعل العمل الآن ولنتغير للأفضل بأسرع ما يمكن.
وإليك الأسئلة:
هل تنظر للمستقبل بأمل وحماس؟
هل تعتقد أنك تستطيع أن تعمل بجد لجعل أمورك أفضل؟
هل تعتقد أن الأشياء السيئة لن تبقى للأبد؟
هل ترى أن حياتك ستكون أفضل في الخمس أو العشر السنوات القادمة؟
هل تشعر أن لديك وقتاً كافياً لتنجز الأشياء التي تريدها؟
على المدى البعيد، هل تتوقع نجاحك في الأشياء التي تتعلق بك؟
هل يراودك شعور بالسعادة والغبطة عندما تنظر للمستقبل؟
على كل الاعتبارات، هل ترى نفسك أنك شخص محظوظ؟
----------------------------------
[1] أخرجه ابن ماجه رقم (4161) وقال الألباني: حسن
الكاتب: عمر بن عبد الله المقبل
المصدر : موقع صيد الخاطر